لم يخلو الاتحاد الاشتراكي منذ تأسيسه ، من الجدل و النقاش ، حول سيرورته التنظيمية و السياسية ، حيث شكلت هذه الثنائية محط نزاع و اختلاف دائم بين مناضلاته و مناضليه ، اتخدت في احيانا كثيرة مسارات جد متوثرة ، بل و عنيفة في محطات عديدة ، جعلت الحزب يفقد في كل محطة العديد من أبناءه و بناته.
مسار الاتحاد الاشتراكي الجدلي ، ليس بالجديد كما يحاول البعض تصوير ذلك ، بل هو معطى ثابت في حياة الحزب منذ تأسيسه ، و لعل ابرز ما كان يسبب هذا الاختلاف بين ابناء الحزب الواحد ، هو ما يمكن ان نسميه " فوضوية" التنظيم ، حيث لم يبنى الحزب على قواسم ايديولوجية و فكرية واضحة كما يتصور الكل ، بل بني على معطى سياسي مهيمن ، يتجسد في معارضة النظام .
هذا المعطى السياسي المهيمن ، جعل الحزب ، خليط بشري غير متجانس فكريا و ايديولوجيا ، لكنه متحد في فكرة المعارضة ، حيث كان يضم الحزب في صفوفه شتى انواع المشارب الفكرية و السياسية التي تبنت المعارضة ، فداخل الاتحاد كان يتواجد البعثيون ، و التروتسكيون ، و القومجيون ، و الماركسيون ، و المحافظون و حتى الليبراليون .
صحيح ان الاتحاد الاشتراكي ، استطاع في مؤتمره الاستثنائي سنة 1975 ، بقيادة الرمز الوطني الكبير الفقيد عبد الرحيم بوعبيد ، ان يوضح خطه السياسي و مشروعه المجتمعي ، المبني على النضال الديمقراطي ، لكنه لم يستطع ان يفرض تراص فكري و سياسي واضح على مناضليه ، حيث استمرت نفس المكونات بالتواجد و الفعل داخل الحزب ، بتمسك تام بقناعاتها و توجهاتها الفكرية و الايديولوجية .
تطور المسار الجدلي للحزب ، سياخد ابعاد اكثر وضوحا و اكثر تسارعا، عندما قرر الحزب قيادة تجربة التناوب التوافقي بقيادة المرحوم عبد الرحمان اليوسفي ، حيث انتفت شروط الوحدة الظاهرية ، و طفت الى السطح كل الاختلافات الفكرية و الايديولوجية التي كانت مستترة بفعل الممارسة المعارضة التي كان ينهجها الحزب .
و هكذا شاهدنا مثلا مشاركة الاستاذ الحبيب الفرقاني احد رموز الاتحاد الاشتراكي و عضو مكتبه السياسي ، في المظاهرة التي نظمتها القوى المحافظة ضد خطة إدماج المرأة في التنمية ، كما تابعنا الرفض الذي ابداه التيار البعثي داخل الحزب للمشاركة الحكومية و ما ترتب عنه من صراع و انشقاق ، و تابعنا كذلك العملية العسيرة لتخلص الحزب من المركزية "الديمقراطية" ، و تعويضها باللامركزية الحزبية ، و غيرها من المحطات الجدلية التي ظهرت بعد حكومة التناوب .
انتفاء شرط المعارضة التي كان ينهجها الحزب ، و حصول التغيير داخل منظومة الحكم المغربي و ما ميزها من انفتاح و حس ديمقراطي مرتفع ، فرض على الاتحاد الاشتراكي ، الانتقال الى مرحلة فرض قواعد الحزب الحديث ، بخطاب سياسي و بناء تنظيمي جديد ، يقتضي وحدة فكرية وسياسية متينة و موحدة .
هذا التحول الذي طرأ على المنظومة السياسية المغربية ، و ارخى بظلاله على الحزب ، للاسف لا يريد عدد من الاتحاديين استيعابه ،و ظلوا حبيسين ، لمنطق سياسي متجاوز و ماضوي ، يجعل من ثرات الحزب النقطة الوحيدة لتدبير المستقبل ، دون اي تجديد او تغيير او ابداع في ادوات و وسائل فعلهم السياسي ، الذي من المفروض فيه ان يكون مواكب و مؤطر لكل المتغيرات الحاصلة .
للاسف هذا المنطق التراثي ، يستمر اليوم في الحكم على كل المتغيرات و الإصلاحات التي عاشها الاتحاد الاشتراكي ، بنظرة ماضوية ، تجعل من المقارنة بين الماضي و الحاضر ، دون اي استشراف للمستقبل ، اساس كل الاحكام التي تترصد الاتحاد الاشتراكي .
الاتحاد الاشتراكي اليوم هو اكثر وضوحا سياسيا من اي وقت مضى ، و اكثر ابرازا لفكره الديمقراطي الاجتماعي ، و لفعله السياسي الرافض لكل أشكال المحافظة و الاستغلال الديني ، و اكثر مواكبة لكل الإصلاحات و عمليات البناء الوطني ، و اكثر وفاء لمشروعه التوافقي الذي دشنه عبر حكومة التناوب برئاسة الفقيد عبد الرحمان اليوسفي .
الاتحاد الاشتراكي ، كذلك هو اليوم بصدد تكريس نموذج تنظيمي جديد و منفتح ، و اكثر قدرة على مواكبة التحولات العميقة التي طرأت سواء على الساحة السياسية أو المجتمعية ، قادر على تقديم عرض سياسي متوازن و تنافسي ، بعيد عن "الفوضوية " التنظيمية .
المؤتمر الوطني 11 للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، هو المحطة المفصلية ، لتكريس الاصلاح الحزبي الشاق الذي قاده الحزب ، و لفرض التوجه الحزبي الصريح و الواضح و الموحد ، و هو كذلك محطة سياسية و تنظيمية بامتياز ، لاستثمار و استغلال كل المتغيرات التي احدثها الحزب ، في سبيل القطع النهائي مع ممارسات و منطق هيمنة التراث الحزبي على الفعل السياسي الجديد للحزب ، عبر تثبيت الخيارات التنظيمية و السياسية التي قادت هذا التغيير .
الاتحاد الاشتراكي اليوم محتاج ، لمزيد من الاطمئنان ، و الاستقرار التنظيمي و السياسي ، لمواصلة ورش التحول و ارساء قواعد الحزب السياسي الحديث الواضح سياسيا و فكريا ، و الاتحاديات و الاتحاديين ، مطالبين اليوم اكثر من اي وقت مضى بالتمسك باختياراتهم و قناعاتهم ، و قيادتهم ، التي استطاعت ان تسير بالحزب وسط حقول الالغام السياسية و التنظيمية العديدة الى بر الامان .