في عمق
خطابهم، ظل الفساد الاكبر يختزل في السلوكيات الفردية والانحرافات الأخلاقية،
بينما كانت تطورات الحقل العام تشير إلى أشكال أعمق وأخطر من الفساد، مرتبطة ببنية
الريع والامتيازات وتضارب المصالح، ولم يكن الإسلاميون مستعدين لهذا الوعي الجديد
الذي تشكل لدى فئات واسعة من المواطنين، خاصة الشباب، الذين باتوا يربطون الفساد بالثروة
والنفوذ لا بالأخلاق الفردية فقط.
كما كشفت
تجربة الإسلاميين في الحكومة عن ضعف بنيوي في فهمهم لطبيعة الصراع السياسي، فبدل
أن يتحلوا بدور القادر على التغير، سقطوا في وهم السيطرة، وسعوا باندفاع
إلى الهيمنة على مفاصل الدولة، دون استحضار لتوازنات النظام السياسي المغربي، ودون
تفكير فيما تقتضيه المشاركة من تعاقد ضمني مع باقي مكونات الدولة، وهذا التموقع
العدواني لم يكن سوى تعبير عن انغلاق فكري ونزعة إقصائية جعلت منهم فاعلين يحسبون
السياسة أداة للتمكين لا مجالا للتفاوض والتدافع، وبذلك فقدوا تدريجيا ثقة
الفاعلين داخل الدولة، وأثاروا حفيظة شركائهم المفترضين داخل الحقل السياسي.
علاوة على
ذلك، فإن المسافة التي أخذوها عن نبض الشارع جعلت منهم فاعلين بعيدين عن ديناميات
المجتمع، لا سيما حين انخرطوا في منطق تدبير يومي هش، محكوم بإكراهات الظرفية،
أكثر من كونه مشروعا سياسيا واضح المعالم، وهو ما عمق حالة الإحباط وسط قواعدهم،
خاصة بعد تنازلات كثيرة، مثل تمرير قوانين لا شعبية، أو القبول بتغييبهم التدريجي
من مواقع القرار الفعلي.
وحتى العودة
إلى المربع الدعوي لم تكن سهلة كما اعتقد بعضهم، فحين فشل السياسي، لم يعد بإمكان
الدعوي أن يفرض سلطته الرمزية بنفس السلاسة، ذلك أن من راهن عليهم باعتبارهم
“نزهاء” وأصحاب مشروع” وجد نفسه أمام مشهد جديد، إسلاميون كانوا في قلب السلطة
وخرجوا منها دون أن يغيروا شيئا جوهريا في معادلات التنمية أو العدالة الاجتماعية.
وفي هذا السياق، يبدو ما يقوم به عبد الإله
بنكيران اليوم تجسيد لمأزق الإسلاميين في المغرب، حيث تتحول السياسة إلى حلبة
خطابية، لا تتجاوز فيها الممارسة حدود التنديد والمزايدة، فالرجل الذي شكل يوما ما رمزا لمرحلة سياسية معينة
، عاد اليوم إلى الواجهة بخطاب متكرر ومستهلك، يحاول من خلاله استعادة أمجاد زمن
مضى، دون تقديم أي قراءة نقدية لتجربته في الحكم، أو تصور متماسك لتجاوز أعطابها،
حيث يكتفي بنكيران بالتربص بأخطاء خصومه، وبتسويق نفسه كصوت "الحقيقة
المظلومة"، او الركوب على قضية إنسانية مثل القضية الفلسطينية ، غير أن
خطابه، المشبع بالشعبوية والتبسيط، أصبح خارج الزمن السياسي الجديد الذي يتطلب
واقعية وبراغماتية ومسؤولية.
فما
يقدمه بنكيران لا يعدو كونه محاولة لإعادة تعبئة قاعدته التقليدية، عبر استحضار
قاموس "المؤامرة" و"الاستهداف"، والهروب إلى الأمام بلغة
أخلاقية تتجنب كلفة المحاسبة السياسية، وهذه العودة إلى منطق المظلومية وتبرير
الفشل بخطط الآخرين لن تسعف في إعادة بناء الثقة، بل ستكرس الانفصال عن واقع
اجتماعي بات يطلب حلولا عملية بدل خطاب العفة والنيات.
إنها
عودة مكشوفة إلى الأسلوب القديم الذي جمع بين التعالي الأخلاقي والتهرب من
المسؤولية، دون أن يجرؤ على مراجعة التجربة أو تقديم ما يثبت أن الحزب قادر فعلا
على التجدد والابتكار، لذلك، لم تعد هذه الخطابات تقنع أحدا، في ظل وعي اجتماعي
جديد يربط المصداقية بالفعل لا بالشعارات، ويقيس الأداء السياسي بقدرته على
الإنجاز لا على ادعاء النقاء.
اعتقد ان الإسلاميون اليوم وعلى راسهم حزب
العدالة و التنمية اليوم يواجهون أزمة سردية عميقة، فبعد أن فقدوا وظيفتهم الرمزية كحاملين
لقيم الإصلاح، لم يستطعوا أن يبنوا سردية جديدة تتلاءم مع التحولات الاجتماعية
والثقافية التي يعرفها المغرب، لذلك، فهم اليوم في موقع دفاعي، يطاردون صورة ماضية
لم تعد مقنعة، ويحاولون لملمة خطاب فقد الكثير من صدقيته أمام جيل لم يعد يؤمن
بالشعارات، بل ينتظر حلولا عملية لمشاكله.
