تظل
الجزائر بجغرافيتها الحالية، مسرحا لنقاشات حادة حول تاريخها، حيث يسعى النظام
العسكري الحاكم منذ الاستقلال عام 1962 إلى صياغة رواية تاريخية مشوهة تخدم أهدافه
السياسية، وأبرز مظاهر هذا التشويه هو الادعاء بوجود كيان سياسي موحد يسمى
"الجزائر" عبر التاريخ، فبينما تؤكد الحقائق أن الأرض الجغرافية الحالية
للجزائر لم تشكل في أي حقبة دولة مستقلة تحمل هذا الاسم، بل كانت دائما جزءا من
حضارات وإمبراطوريات أخرى، من النوميديين إلى الرومان، ثم الوندال والعثمانيين،
وأخيرا الاحتلال الفرنسي، فان التحريف الجزائري للتاريخ لا يعكس الا عقدة عميقة لدى النظام الجزائري تجاه دول الجوار، خاصة المغرب، التي حافظت على
وجودها السياسي والثقافي عبر التاريخ، في حين كانت معظم الأراضي الجزائرية جزءا من
تراب هذه الدول قبل أن يعيد الاحتلال الفرنسي رسم الحدود لصالح "الجزائر
الفرنسية.
في
العصور القديمة، كانت الأراضي التي تشكل الجزائر الحالية جزءا من مملكتي ماسينيسا
ويوغرطة النوميديتين، لكن هذه الممالك لم تعرف باسم "الجزائر"، بل كانت
كيانات قبلية تابعة لقوى أكبر مثل قرطاج أو روما، وبعد الغزو الروماني، أصبحت
المنطقة مقاطعة تابعة للإمبراطورية الرومانية ، ولم يكن هناك أي ذكر لكيان سياسي يسمى
الجزائر، ومع دخول الإسلام، خضعت المنطقة للأمويين ثم العباسيين، ولاحقا لدول
محلية مثل الرستميين، لكن هذه الكيانات لم تشكل هوية سياسية موحدة، حيث كانت الأراضي الجزائرية غالبا تحت نفوذ دول
الجوار، خاصة المغرب، حيث امتدت سلطة الدول المغربية كالمرابطين والموحدين إلى
أجزاء كبيرة مما يعرف اليوم بالجزائر، ومحاولة النظام العسكري الجزائري ربط هذه
الفترات بـ"دولة جزائرية" هي تزوير صارخ، يكشف خوف النظام من مواجهة
حقيقة أن الجزائر الحالية هي نتاج تقسيمات استعمارية.
مع
وصول العثمانيين في القرن السادس عشر، أصبحت الأراضي الجزائرية تحت حكم
"الإيالة الجزائرية"، لكن هذا الكيان لم يكن دولة مستقلة، بل ولاية
تابعة للدولة العثمانية، يحكمها بايات أتراك، والرواية الرسمية لعسكر الجزائر
تحاول تصوير هذه الفترة كمرحلة مقاومة، لكن الحقيقة تكشف أن الحكام العثمانيين
كانوا نخبة أجنبية منغلقة، لا علاقة لها بهوية جزائرية، ومع الاحتلال الفرنسي عام
1830، أصبحت الأراضي الجزائرية تحت سيطرة استعمارية مباشرة، فالفرنسيون لم يعترفوا
بكيان يسمى الجزائر، بل اعتبروا المنطقة أقاليم تدار كجزء من فرنسا، و حتى مقاومة
الأمير عبد القادر، التي يمجدها النظام، لم تكن تهدف إلى إقامة دولة جزائرية، بل سعت
فقط إلى الدفاع عن النفوذ المحلي، وعبد القادر نفسه لم يستخدم مصطلح
"الجزائر" كدولة، فالمنطقة كانت مفتتة بين قبائل عديدة، جزء كبير منها
تابع للدولة المغربية قبل أن يعيد الفرنسيون رسم الحدود، فمناطق مثل بشار وتندوف
كانت تابعة للمغرب حتى القرن التاسع عشر، و تقديم هذه المقاومة كمشروع وطني جزائري
هو تحريف، حيث يهدف هذا التشويه إلى خلق رمزية وطنية مفقودة ، لكن الحقائق تفضح
هذه الرواية، وإنكار هذا التاريخ يكشف عن
خوف النظام من مقارنة تاريخه الهش باستمرارية دول الجوار.
ثورة
التحرير (1954-1962) هي الحدث الذي يمكن اعتباره تأسيسا للجزائر الحديثة، لكن حتى
هذه الثورة لم تنطلق من كيان سياسي موحد، فجبهة التحرير الوطني كانت تحالفا بين
فصائل متنوعة، بل انظم اليه حتى مناضلون
من دول الجوار و خاصة من المغرب، و رغم ان النظام العسكري الجزائري يصر على تقديم الثورة كعمل موحد، متجاهلا الصراعات
الداخلية مثل أزمة 1959 أو صراعات 1962 التي أدت إلى صعود العسكر بقيادة هواري
بومدين، فان طمس هذه الصراعات هو محاولة لإخفاء ضعف الشرعية التاريخية للنظام الذي
يبحث عن شرعية تاريخية باي ثمن.
محاولة
النظام العسكري الجزائري تشويه التاريخ ، لم تقتصر فقط على ما يقوم به من تدليس و
تحريف، بل امتدت الى قمع المؤرخين المستقلين، والتضييق على الشخصيات الاكاديمية
الجزائرية ، بل وصل الامر الى حد اعتقال أي باحث او اكاديمي يفند الرواية العسكرية
و ينتصر للحقائق التاريخية، و خير مثال على ذلك بوعلام صنصال الذي وجد نفسه في
السجن لمجرد انه قال حقيقة تاريخية يجمع عليه العالم باسره ، او المؤرخ محمد الأمين
بلغيت الذي القي عليه القبض لمجرد مشاركته في برنامج تلفزي تحدث فيه عن وجهة نظر
بحثية في التاريخ، رأى فيها عسكر الجزائر تعارض مع روايته المحرفة ، فعسكر الجزائر
يريد فرض سردية تاريخية بالقوة والغصب على الجزائريين، ولا يهمه لا تاريخ و لا
حقائق و لا علم و لا بحوث اكاديمية و لا أي شيء ، كل ما يهمه هو تنميط الشعب
الجزائري و جعله مؤمنا بالوهم التاريخي.
محاولات
النظام لصناعة تاريخ مشوه تعكس خوفه من مواجهة الحقيقة، الأرض الجغرافية للجزائر
لم تكن دولة موحدة قبل 1962، بل كانت تابعة لحضارات وقوى أخرى، ، هذا الواقع لا
ينتقص من قيمة الجزائر، لكن الإصرار على التزوير يضعف هويتها و يجعلها هشة ومبنية
على قواعد هشة، فسرقة ثرات دول الجوار و تقاليد شعوبها لن يصنع بعد هوياتي وثقافي
خاص بالجزائر ، لأنه سيظل غريبا عن الشعب فهو لم يصنعه و لم يدرك قيمته و كيفية
خروجه الى الوجود و لم يتفاعل او ينصهر معه لانه ليس نتاجا له، والتضييق على المؤرخين مثل صنصال وبلغيت ومنع أي
نقاش حر، لا يكشف الا خوف النظام العسكري
من انكشاف هشاشة سرديته المبنية على التزوير و التحريف الفج، الجزائر بحاجة إلى
نهج تاريخي شفاف، فالتاريخ ليس أداة للسلطة، بل تراث شعب يستحق الصدق.
محاولات
النظام العسكري لتحريف الحقائق التاريخية تنبع من إدراكه العميق أن غياب البعد
التاريخي والحضاري عن الدولة الجزائرية يفقدها أي طموح للتأثير سواء في المنطقة أو
على المستوى القاري، فالجزائر لم تكن يوما ذات عمق تاريخي مؤثر، على عكس دول
الجوار مثل المغرب، التي شكلت مركزا حضاريا وسياسيا عبر العصور، فهذا النقص
التاريخي يشكل عقدة وجودية للنظام العسكري ، الذي يسعى من خلال تزوير التاريخ إلى
خلق أسطورة دولة جزائرية عابرة للزمن، لكن الحقيقة أن الأراضي الجزائرية كانت
تابعة لحضارات أخرى أو تحت نفوذ دول الجوار، وهذا التحريف يكشف عن خوف النظام من
مقارنة دوره الإقليمي الهامشي بتأثير دول مثل المغرب، التي حافظت على هويتها
ونفوذها، و الحقيقة التي لا يدركها هذا النظام، ان فرض رواية مزيفة لن يعوض هذا
النقص، بل سيعزز الشعور بالهشاشة، فالتاريخ لا يبنى بالأوهام، بل بالحقائق التي تعترف
بالواقع.
استمرار
النظام العسكري الجزائري في محاربة التاريخ لن ينتج سوى الانقسامات، فالرواية
المشوهة قد تخدم أهدافا سياسية، لكنها تعرض الذاكرة الجماعية للتشويه، وقمع
المؤرخين وتنميط التفكير التاريخي يكشف عن خوف النظام من الحقيقة، الجزائر بحاجة
إلى تصالح مع ماضيها، لا إلى إعادة كتابته بما يتماشى مع أهواء العسكر، وفقط عبر
نهج موضوعي يمكن بناء هوية وطنية حقيقية، فالتاريخ لا يزور بالدعاية، بل يكتب
بالشجاعة لمواجهة الحقيقة.
