من المؤكد ان هناك مجموعة من المداخل تبرز لفهم الازمة الحالية بين المغرب و تونس على إثر الخطوة العدائية التي قام بها الرئيس التونسي قيس سعيد اتجاه القضية الوطنية المغربية ، لكنها تسير كلها في اتجاه جعل هذا العمل كخطوة تراكمية لعدد من الخطوات العدائية الاخرى اتجاه المغرب .
قد يتجه البعض لجعل السبب الرئيسي في اقدام قيس سعيد على هذه الخطوة ، مرتبط بضغوط جزائرية نابعة من تأثير اقتصادي و سياسي متصاعد للجزائر داخل تونس ، اججته و ساعدت على استفحاله الظرفية الاقتصادية الصعبة التي تجتازها تونس .
و قد يذهب البعض الاخر الى جعل هذه الخطوة كعمل منسق تقوم به فرنسا اتجاه المغرب تحاول من خلاله تحجيم المغرب و فرملة تفوقه في المنطقة و اختياره لحلفاء اخرين ، أفقد فرنسا مكانتها و مصالحها الاستراتيجية داخل المنطقة ، من خلال استعمال نفوذها لدى دول الجوار المغربي .
من المؤكد ان هذين المدخلين يجدان من المشروعية و المبررات ما يجعلهما قائمين ، و قادرين على تقديم اجابات للاستفسارات العديدة التي باتت تطرح حول المواقف التونسية الرسمية من المغرب ، فالتاثير الجزائري على تونس واضح و ملموس ، و التوجه الفرنسي المعادي للمغرب بات يكتسب زخما يوما بعد يوم .
لكن الاكتفاء بهذين المدخلين لفهم ابعاد الأزمة المغربية التونسية ، سيكون بلا شك فهما ناقصا يسقط عدة تاثيرات و عدة متدخلين اخرين ، و سيدفع بلا شك الى فهم مشوه لهذه الأزمة و لابعادها و لاسقاطتها على المنطقة سواء على المستوى القريب او البعيد .
تونس و باعتبارها بلد جنوب متوسطي و افريقي ، فقد كثيرا من مقوماته الاقتصادية و السياسية بعد الثورة ، اصبحت منطقة تجاذب بين مجموعة من القوى العالمية التي تسعى إلى الهيمنة على القارة الافريقية ، و خاصة ما بين الصين و روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية ، بالإضافة إلى فرنسا باعتبارها صاحبة الإرث الاستعماري للبلد و المتنفع الاكبر من البلاد طيلة عقود من الزمن .
القول ان الجزائر تتحكم بالقرار التونسي ، هذا لا يشكل الا الواجهة التي تخفي وراءها تجاذبات دولية هائلة في المنطقة المغاربية برمتها ، فالجزائر غير قادرة لوحدها على فرض هيمنتها على اي دولة في المنطقة ، نظرا لوضعيتها الاقتصادية المتأزمة و لاوضاعها الداخلية الملتبسة ، و لا يمكنها باي حال من الأحوال أن تفرض على اي دولة في المنطقة ما تريده سواء بالترغيب او القوة .
الجزائر ما هي الا منفذ مطيع لاجندات دولية تتلاقى مصالحها مع مصالح النخبة العسكرية الحاكمة ، ابرزها روسيا و بشكل او باخر فرنسا التي تريد ان تبحث لها عن وزن سياسي و مصالحي خارج العبائة الأمريكية ، و خاصة في جنوب البحر الأبيض المتوسط .
تونس كانت تعتبر دائما خليفا موثوقا لدى القوى الغربية و خاصة الولايات المتحدة الأمريكية ، التي دعمت تونس لعقود من الزمن ،و سعت إلى توقيع الاتفاق معها كحليف من خارج حلف الشمال الأطلسي ، لكن كل هذا سينهار مع صعود قيس سعيد الى سدة الحكم في تونس و انقلابه على الدستور و على التجربة الديمقراطية الناشىة التي راهنت عليها الولايات المتحدة الأمريكية .
هذا الانقلاب الحاصل في تونس لن يمر دون ان تعلن الولايات المتحدة صراحة على لسان وزير خارجيتها انتوني بلينكن عن رفضها له و دعوتها الصريحة الى العمل على دعم حلفائها الديمقراطيين في تونس للعودة إلى النسق الديمقراطي ، و هو ما أثار حفيظة الرئيس قيس سعيد ، الذي هدد ببحث تونس عن شركاء او حلفاء دوليين اخرين ، في إشارة واضحة لروسيا و الصين .
الولايات المتحدة الامريكية، لا تخرج عن استراتيجيتها المتمثلة في دمقرطة الدول الحليفة لها ، باعتبارها الضامن الاساسي للشراكة و التحالف معها ، هذا الامر لا يمكنه ان يتحقق مع قيس سعيد و النخبة الحاكمة في تونس ، التي بدأت ترى أن ما تطلبه الولايات المتحدة الأمريكية ، يشكل تهديد كبير لاستمرارها في الحكم ، فقيس سعيد انقلب على الدستور و بدأ يرسي معالم حكم شمولي في تونس ، لن يقبل باي شكل من الاشكال الديمقراطية داخل البلاد .
امام هذا الاصرار الامريكي على العودة إلى الديمقراطية في تونس ، و الذي عبر عنه مرة أخرى السفير الامريكي المعين حديثا في تونس داخل الكونغرس الأمريكي ، و جدت فرنسا مدخلا مناسبا لتقوية تواجدها في تونس عبر دعم الرئيس ماكرون لخطوات قيس سعيد .
امام هذا الضغط الدولي و طموح النخبة الحاكمة في تونس بالاستمرار في الحكم ، و امام ظرفية اقتصادية كارثية لم تجد تونس بدا من الارتماء في احضان الجزائر الروسية ، بدعم فرنسي مؤكد ، لمعاكسة التحالف الامريكي في المنطقة ، و البحث عن مظلة دولية قوية تحمي هذا النظام غير الديمقراطي الذي يؤسس له قيس سعيد .
اختيار تونس قيس سعيد لهذا الصف ، جعلها تصبح اكثر اندفاعا لتلبية كل ما يطلب منها ، و هو ما انعكس سريعا على موقفها من المغرب الذي يعد الحليف الابرز للولايات المتحدة الأمريكية ، و الاكثر استقرار و تفوق اقتصادي و سياسي في المنطقة .
بطبيعة الحال ما قامت به تونس و ما تراكمه من اختيارات سيئة على مستوى تحالفاتها الدولية و سياساتها الداخلية ، سيجعلها تواجه سيناريوهات خطيرة جدا ، سواء على المستوى الداخلي او الخارجي، فازمتها الاقتصادية عميقة جدا تهدد بافلاس الدولة ، و توجهها للاقتراض من صندوق النقد الدولي رهين بموافقة و دعم الولايات المتحدة الأمريكية ، و الجزائر و روسيا غير قادرتان على المدى المتوسط و البعيد من تلبية حاجيات تونس المتزايدة .
تنونس لها نخب سياسية متنورة لا تقبل العيش في ظل نظام شمولي او عسكري على غرار الجزائر ، و حتى جيشها مرتبط بشكل وثيق بالولايات المتحدة التي وفرت له الدعم و التكوين لعدة عقود، و هو ما سيجعل انفصالها على التوجه الغربي شبه مستحيل .
بالإضافة إلى كل هذا و ذاك فالتاثير العربي قوي في تونس و خاصة دول الخليج ، و هو ما سيزيد من متاعب تونس الاقتصادية في حالة تماديها في اختياراتها السياسية الحالية و تحالفاتها الدولية التي تتعارض مع الاصطفافات العربية الحالية
.jpeg)